الحق في التراجع عن العقد الاستهلاكي بين القوة الملزمة للعقد وحماية المستهلك في ضوء القانون رقم 31-08 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك الباحث محمد حميد جاحظ
[]
الحق في التراجع عن العقد الاستهلاكي بين القوة الملزمة للعقد وحماية المستهلك
في ضوء القانون رقم 31-08 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك
The Right to Withdraw from a Consumer Contract: Binding Force of the Contract and Consumer rotection
In light of Law No. 31-08 establishing consumer protection measures
الباحث محمد حميد جاحظ
باحث بسلك الدكتوراه القانون العام بكلية الحقوق المحمدية جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء
هذا البحث منشور في مجلة القانون والأعمال الدولية الإصدار رقم 59 الخاص بشهر غشت / شتنبر 2025
رابط تسجيل الاصدار في DOI
https://doi.org/10.63585/KWIZ8576
للنشر و الاستعلام
mforki22@gmail.com
الواتساب 00212687407665
الحق في التراجع عن العقد الاستهلاكي بين القوة الملزمة للعقد وحماية المستهلك
في ضوء القانون رقم 31-08 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك
The Right to Withdraw from a Consumer Contract: Binding Force of the Contract and Consumer rotection
In light of Law No. 31-08 establishing consumer protection measures
الباحث محمد حميد جاحظ
باحث بسلك الدكتوراه القانون العام بكلية الحقوق المحمدية جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء
ملخص
يعد مبدأ القوة الملزمة للعقد، أولى العقبات القانونية التي تواجه المستهلك، والذي بمقتضاه لا يجوز له أن يستقل بإلغاء هذا العقد أو تعديل بنوده إلا في حدود ما يسمح به الاتفاق أو نص القانون إلا أنه ليس مطلقا، بل ترد عليه بعض القيود التي يفرضها قانون 08/31 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك الذي منح لهذا الأخير الحق في التراجع عن التعاقد في مجال عقد القرض الاستهلاكي، والبيع خارج المحلات التجارية، والبيع عن بعد، رغم ما يشكله ذلك من إضعاف للقوة الملزمة للعقد.
Abstract
The principle of the binding force of the contract is the first legal obstacle facing the consumer, according to which he may not independently cancel this contract or amend its terms except within the limits permitted by the agreement or the text of the law. However, it is not absolute, but rather it is subject to some restrictions imposed by Law 08/31 regarding the determination of measures to protect the consumer, which granted the latter the right to withdraw from the contract despite the fact that this constitutes a weakening of the binding force of the contract.
مقدمة
أصبح اختلال التوازن العقدي صارخا بشكل لا تستسيغه قواعد العدالة والإنصاف، فمقابل سيطرة المهنيين بفضل قدرتهم وخبرتهم ومعرفتهم في مجال التعاقد و المكونات الفنية للسلع والخدمات محل العقد، يوجد المستهلك في وضعية صعبة تفرض عليه الانقياد التام للشروط التي تملى عليه، فيجد نفسه أحيانا مقحما في علاقات تعاقدية ليست تماما في صالحه.وأمام هذا الواقع لم يعد المستهلك قادرا على الدفاع عن مصالحه بنفسه، وأصبح في حاجة ماسة إلى الحماية لاسيما وأن ظاهرة عدم التساوي بين المهنيين والمستهلكين تتزايد باستمرار مع تنوع وتطور صور البيوع وتزايد عقود الإذعان وأيضا سرعة وتعقد المعاملات التي يتمخض عنها ارتفاع فرص اتخاذ قرارات متسرعة من قبل المستهلكين، أو على الأقل لم يقوموا بالتفكير فيها بشكل جيد، كما أن تعقد المنتجات في تركيبها وصنعها زاد من إمكانية إصابة المستهلك بها أو عدم توصله بما كان ينتظره منها، بالإضافة إلى أن ظاهرة تهافت المهنيين على الربح السريع يدفعهم في كثير من الأحيان إلى عدم الاكتراث بالأخطار التي قد تترتب عن وضع منتجات لا تستجيب للمعايير القانونية أو لا تتوفر فيها الجودة المطلوبة في السوق.
وعلى الرغم مما أورده المشرع المغربي من مقتضيات حمائية مضمنة في ظهير الالتزامات والعقود، ساهمت إلى حد ما في حماية رضا المستهلك من الوقوع في الإكراه، والغلط، والتدليس، إلا أنه سرعان ما شعر بضرورة دعمه بنصوص خاصة، فجاء بأحكام القانون رقم 08/31 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك ، محاولا من خلاله إعادة المساواة بين المهني والمستهلك من خلال منحه للمستهلك في المادة 36 من قانون 08/31 الحق في التراجع عن التعاقد، نظرا لأن المستهلك قد يكون انتهى به الأمر إلى واقع يغلب عليه توافق بنود العقد وشروطه مع مصالحه و أهدافه التي من أجلها أقبل على التعاقد، إلا أنه بالنظر إلى السرعة التي تتم بها المعاملات وقلة خبرة المستهلك في مواجهة المهني وتعرضه للعديد من وسائل الحث والإغراء على التعاقد، فإنه في الغالب ما تأتيه تعاقدات خالية من عناصر التمهل والتدبر والتفكير فيكتشف أحيانا بعد إبرام العقد عدم ملاءمته بالنسبة إليه فيصبح فريسة للندم.
وتكمن أهمية إقرار المشرع المغربي بالحق في التراجع عن التعاقد من أجل تنوير رضا المستهلك بالقدر اللازم في ضوء التقدم الذي عرفته وسائل الإنتاج وتقدم المنتجات على نحو يتعذر معه إحاطة المستهلك بماهيتها وخصائصها وطابعها الفني وبشكل يؤثر على تنوير رضاؤه بالعقد الذي أصبح يأتي في غالب الأحيان غير معبرا عن حقيقة مصالحه، و سوف نتناول موضوع الحق في التراجع عن العقد الاستهلاكي بين القوة الملزمة للعقد و حماية المستهلك من خلال تقسيمه إلى الطبيعة القانونية للحق في التراجع عن التعاقد (مطلب أول)، ثم سنتطرق في (مطلب ثاني) إلى تمييز الحق في التراجع عن بعض صور إنهاء العقد بالإرادة المنفردة.
المطلب الأول : الطبيعة القانونية للحق في التراجع:
تبدوا أهمية تحديد الطبيعة القانونية للحق في التراجع عن التعاقد في أنه يتوقف عليها تحديد آثار التراجع أي الآثار المتعلقة بمباشرة هذه الرخصة، ذلك أن هناك تفسيرين لرخصة التراجع التفسير الأول مفاده أن رخصة الرجوع تقوم على الفكرة القائلة بالتكوين التعاقبي أو التتابعي للرضاء، وبالتالي فإن العقد لا يعتبر قد تكون قبل انتهاء مرحلة التفكير ولا ينتج أي أثر بينما التفسير الثاني مفاده أن رخصة التراجع تقوم على الفكرة القائلة بإعادة النظر في الرضاء، وبالتالي فإن العقد يكون قد تكون تماما منذ إبرامه، وسوف ينتج آثاره عادة أثناء مهلة التفكير. فالمهم إذن هو ما هي لحظة تكون العقد فهل ترد رخصة التراجع على عقد سبق تكوينه تماما أم أن هذه الرخصة تؤجل تكوين العقد؟
هذا ما سنبينه من خلال الاتجاه القائل بالتكوين التعاقبي للرضا في ( فقرة أولى)، والاتجاه القائل بالتكوين التام للعقد (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: الاتجاه القائل بالتكوين التعاقبي للرضا:
يذهب رأي من الفقه إلى أن التصرف القانوني الذي ينطوي على رخصة التراجع لأحد الطرفين لا ينعقد بصفة نهائية، بل يظل في مرحلة التكوين إلى حين انتهاء المهلة التي قررها المشرع للمستهلك والتي يستطيع خلالها التحلل من التزامه بإرادته المنفردة.
فهذه المهلة لا تعدو أن تكون فترة تروي وتفكير في أمر العقد الذي أبدى من حيث المبدأ –المستهلك استعداده لإبرامه فتكوين العقد من وجه نظر هذا الاتجاه يبدأ منذ لحظة قبول المستهلك للعرض الذي يتضمن إيجابا– المقدم من المهني ولكن لا يتم إلا بعد انتهاء مهلة التفكير دون ممارسة المستهلك رخصة التراجع ،ومعنى هذا أن الاتفاق بين المهني كطرف بائع والمستهلك كطرف مشترى لا يولد من -الناحية الفعلية والقانونية- إلا بعد انقضاء المهلة المقررة للمستهلك لإتاحة الفرصة له في التفكير وتكوين رضاؤه، دون أن يعبر عن إرادته صراحة، بالتحلل من الإتفاق فالقبول من وجهة نظر هذا الرأي أن المستهلك يمر بمرحلتين هما:
المرحلة الأولى: وهي تبدأ منذ تلقيه الإيجاب وإبداء رأيه واستعداده لإبرام العقد بالموافقة على مضمون العرض الذي قدم إليه وهذه المرحلة، وإن كانت لا تكفي لإبرام العقد إلا أنها تعد النواة الأولى والأساسية لوجود القبول، وهذه المرحلة وإن كانت تتمتع بقيمة قانونية ذاتية، حيث أنها تعتبر المحرك للعقد بمجرد انتهاء المهلة المحددة للتراجع أو التحلل من الالتزام. إلا أنها لا تكفي لتمام العقد لأن المشرع تشكك في رضاء المشتري بشأن إبرام العقد فقد تخوف من أن يكون المستهلك مدفوعا في التعاقد بناء على عروض التاجر للمنتج بطريقة جذابة.
المرحلة الثانية: وهي تبدأ منذ إبداء الرغبة في الموافقة على العرض وإعلانها لصاحب الإيجاب أي المهني وحتى لحظة انقضاء المهلة التي حددها المشرع فإذا انقضت هذه المهلة دون تراجع المستهلك عن التعاقد. فمعنى ذلك أن القبول اكتمل كيانه الفعلي والقانوني، وقد شبه أحد أنصار هذا الاتجاه القائل بالتكوين التعاقبي أو التدريجي للعقد بالحمل المستكن.
فالعقد في المرحلة الأولى للرضا لكن المستهلك يكون في حالة سكون كالحمل المستكن، بمعنى أنه يكون مجرد نطفة لا تخرج إلى الحياة، إلا بالمحافظة عليها في بطن الأم، طوال الفترة المقررة، دون تدخل إرادي يتمثل في حق التراجع.
فإذا حافظ المشتري على رضائه الأول عن طريق عدم الرجوع فيه بإرادته المنفردة، خلال المدة المحددة قانونا، فالعقد يولد ويخرج إلى الحياة القانونية ويرتب إلتزامات على عاتق طرفية منذ انتهاء المرحلة الثانية ومعنى هذا أن العقد خلال المرحلة الأولى، لا يرتب آثارا قانونية، وشبه البعض الآخر العقد المقترن برخصة التراجع بالوعد بالتعاقد، بقولهم أن الوعد بالتعاقد يؤدي إلى تفكيك أوصال زمن التكوين للرضا بما يؤدي إلى جعل التكوين يبدأ مبكرا.
أما في حالة التراجع فإن العكس هو الذي يحدث أي يكون التكوين متأخرا، وهكذا كان الوعد بالتعاقد هو ذلك الاتفاق الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل إذا أعلن الموعود له رغبته خلال المدة المحددة.
وعليه، فإن الوعد بالتعاقد يختلط بالحق في التراجع الممنوح للمستهلك، من حيث أن مهلة التفكير في الوعد بالتعاقد، تمثل الوقت الممنوح للمستفيد من الوعد لكي يعلن عن رغبته في التعاقد وتشكل إمكانية الرجوع بالنسبة إليه ذلك الحق الممنوح له في عدم الإعلان عن رغبته ومع ذلك فإن إمكانية التراجع في الوعد بالتعاقد، تختلف اختلافا بينا عن الحق في التراجع الممنوح للمستهلك، ذلك أن الأولى تهدف إلى إزالة التزام أحد الأطراف بعد تبادل الرضا حول جميع عناصر العقد، كما هو الشأن أيضا في الحق في التراجع الذي يوجد بحوزة المستهلك. فإن إعلان الرغبة في الوعد بالتعاقد، يؤدي إلى إنشاء العقد وليس إزالته.
ولذلك ذهب جانب من الفقه إلى أن الحق في التراجع هو بيع مع إمكانية الفسخ، وهو ما يسميه البعض بعربون التراجع وبعبارة أخرى هو الشرط الذي يحتفظ بمقتضاه أحد الأطراف أو كليهما بإمكانية التراجع عن العقد خلال أجل محدد. وهذا ما كرسته صراحة المادة 1590 من القانون المدني الفرنسي، ومن هنا يتبين أن سداد العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في التراجع في تعاقده وذلك بمقابل.
وينتهي الرأي القائل بالتكوين التعاقبي للرضا إلى أن إعطاء المستهلك حق التراجع في العقد بإرادته المنفردة، خلال مساحة زمنية محددة، لا يعتبر اعتداءا على مبدأ القوة الملزمة للعقد، لأن هذا المبدأ لا يطبق إلا إذا كان العقد تكون فعلا وقانونا. وهذا لا ينطبق على التعاقد المعترف برخصة التراجع من أحد الطرفين إلا بعد انقضاء المهلة المقررة دون ممارسة هذه الرخصة.
وبذلك يبدو أن الحق في التراجع الممنوح للمستهلك لا يشكل مساسا بالقوة الملزمة للعقد، لأن العقد لا يكون قد أبرم بعد، ويظهر لنا أن هذا التفسير يقترب كثيرا من إرادة المشرع ومن الحقيقة النفسية للمستهلك. ذلك أن وضع المستهلك لتوقيعه أسفل عقد محرر بصفة مسبقة من طرف المحترف وهو متأثر ومدفوع بأساليب الحث والإغراء التي تدفعه إلى الشراء أو الاقتراض.
الفقرة الثانية: الاتجاه القائل بالتكوين التام للعقد:
يذهب رأي أحد الفقه إلى أن رخصة التراجع المقررة للمستهلك لا تغير من طبيعة العقد شيئا، فالعقد يكتمل وجوده الفعلي والقانوني بمجرد قبول المستهلك للإيجاب المعروض من المهني، سواء من خلال أحد أتباعه أو مندوب مستقل، أو من خلال قناة تلفزيونية، أو شبكة الإنترنيت.
و معنى هذا أن المشرع قرر للمستهلك رخصة التحلل من التزامه، في عقد مكتمل واستند هذا الاتجاه إلى الأسس الآتية:
1: إن ملكية الشيء محل التعاقد، تنتقل إلى المستهلك بمجرد صدور قبول منه، فإبداء المستهلك رغبته في التعاقد في ضوء العرض والشروط المقترنة به، يقتضي قيام الطرف الآخر (المهني) بتسليمه الشيء ويسري على البيع جميع الأحكام الخاصة بعقد البيع. ومنها تحمل المشتري تبعة هلاك الشيء المبيع، الذي انتقلت إليه ملكيته، ما لم يكن الهلاك راجعا إلى خطأ الطرف الثاني (المهني) أو أحد أتباعه.
2: أن التسليم الفعلي للشيء المبيع، في البيوع المقترنة برخصة التراجع لا يتم إلا إذا كان المستهلك قد دفع الثمن بالفعل. ومعنى هذا أن العقد قد استجمع أركانه وشروط صحته.
وإذا كان المشرع قرر للمستهلك حق إنهاء العقد بالإرادة المنفردة، إنما فعل ذلك استثناءا من مبدأ القوة الملزمة للعقد، فهذا المبدأ قرره المشرع ومن ثم يملك الخروج عنه، وهدفه من ذلك سد بعض الثغرات التي توجد في النظرية العامة للعقد، وخاصة الأحكام التي تنظم عيوب الرضا، والتي يستطيع المتعاقد من خلالها طلب إبطال العقد متى أثبت أن إرادته معيبة بأحد العيوب، فقد كشف التطبيق العملي لأحكام نظرية عيوب الإرادة عن عجزها في بعض الأمور، حيث أنها لا تغطي حالات يأتي فيها رضاء المتعاقد بتسرع دون تدبر، أو تفكير كاف من جميع زوايا العقد الذي أسهم بإرادته في إبرامه في إبداء المشتري رغبته في قبول العرض، دون تفكير كاف من جميع زوايا العقد الذي أسهم بإرادته في إبرامه، فإبداء المستهلك رغبته في قبول العرض دون تفكير كاف، معناه أن الرضاء بالإيجاب الذي قدم له، قد صدر منه على غير رضاء تام ،وهنا تقف نظريتي الغلط والتدليس عاجزتين عن مواجهة هذه المسألة.
من هنا تدخل المشرع وقرر للمستهلك رخصة التحلل من التزامه لتوفير حماية حقيقية له، عجزت النظريات المشار إليها سابقا عن توفيرها، ومما يؤكد ذلك أن المشرع قرر بأن رخصة الرجوع في التعاقد تتعلق بالنظام العام والآداب العامة، ومن ثم فإن أي اتفاق على ما يخالفها يقع باطلا.
3: إن إعادة النظر أو التراجع، لا تتقرر إلا إذا كان العقد له كيان قانوني وفعلي في نفس الوقت، أما في سياق التكوين للعقد، فإنه لا يكون مناسبا إطلاق لفظة التراجع. لأننا نكون في مرحلة مفاوضات، وبالتالي فإن آثار العقد تبدأ منذ الإبرام وبذلك تتميز رخصة التراجع كما يتشابه معها من الوسائل التي تسمح بالتراجع في التعاقد في حالات أخرى، وهذا ما نتطرق إليه في المطلب الثاني، وفيما يتعلق بوجهة نظرنا نتفق مع الاتجاه القائل بأن رخصة التحلل من الالتزام، تعد قيدا على مبدأ القوة الملزمة للعقد، فإذا كان المشرع قد أضفى على العقد قدسية معينة، واعتبره قانون المتعاقدين، إعمالا لمبدأ سلطان الإرادة وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين.
المطلب الثاني : التمييز بين الحق في التراجع وبعض صور إنهاء العقد بالإرادة المنفردة
يشترك الحق في التراجع عن التعاقد مع بعض صور إنهاء العقد، وخاصة تلك التي يمكن ممارستها بالإرادة المنفردة في العديد من السمات على نحو ينبغي معه التمييز بينهما وبين هذا الحق، لما يساهم ذلك في إلقاء المزيد من الضوء على طبيعته ونظامه، والآثار التي تترتب على إعماله وسنكتفي في هذه الصور بصورتين هي حق أحد المتعاقدين في فسخ العقد بالإرادة المنفردة، وطلب إبطال العقد لتعييب الإرادة.
الفقرة الأولى : تمييز الحق في التراجع عن فسخ العقد بالإرادة المنفردة:
يستدعي التمييز بين التراجع عن التعاقد ،وفسخ العقد بالإرادة المنفردة أن نقف على مظاهر التشابه بين النظامين، ثم نتطرق إلى أوجه الاختلاف بينهما.
1: مظاهر التشابه بين الحق في التراجع وفسخ العقد بالإرادة المنفردة
أ- فيما يتعلق بالمرحلة التي يمارس فيها كل منهما:
يهدف الحق في التراجع إلى العمل على استيثاق أحد المتعاقدين من رضائه فيما يتعلق بتمهله وتأنيه لدى إبرام العقد، لذلك فإن حق التراجع يمارس في المرحلة التي تلي إبرام العقد اتفاقا مع فسخ العقد الذي يرتبط بعدم تنفيذ الأداءات المتقابلة، على نحو يؤدي إلى انحلال الرابطة العقدية، وبطبيعة الحالة فإنه لا يكون ذلك إلا بعد انعقادها.
ب – فيما يتعلق بالجدوى الاقتصادية:
يشترك كل من الحق في التراجع عن التعاقد وفسخ العقد بالإرادة المنفردة في إمكان ممارستهما، حتى ولو لم تتحقق أي مصلحة اقتصادية كأثر للتراجع عن التعاقد أو الحكم بالفسخ، فالهدف من الأول مجرد الاستيثاق من تحقق الرضا، والهدف من الفسخ أما حمل تنفيذ المتعاقد الآخر على تنفيذه لالتزاماته، وأما الرغبة في عدم تنفيذ الالتزام المقابل وإرجاع العقد إلى الصورة التي كان عليها قبل إبرامه، وكلاهما لا يتعلق بالجدوى الاقتصادية للعقد بالمعنى الفني.
ج- فيما يتعلق بالأثر:
من أهم آثار الفسخ إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التعاقد، وعلى النحو الذي يحول دون إعمال الخسارة بالمشتري وذلك اتفاقا مع أثر الحق في التراجع عن التعاقد، الذي له أثر رجعي يستند إلى وقت إبرامه، فكلاهما يزيل العقد ويهدمه، بل ويعتبره كأن لم يوجد أصلا.
د- فيما يتعلق بجواز التنازل عن الحق:
يجوز التنازل عن الحق في التراجع عن التعاقد متى كان مصدره اتفاق المتعاقدين تأسيسا على أنه من يملك الأكثر يملك الأقل، كذلك يجوز للدائن التنازل عن الحق في طلب فسخ العقد في ضوء عدم تعلق ذلك بالنظام العام. كما أن يرتبط ذلك أن تنازل المشتري عن حق طلب فسخ العقد بالإرادة المنفردة يعد من الشروط التي يحرص البائع المحترف على إدراجها بالعقود النموذجية التي تعتبر المجال الخصب لنمو الشروط التعسفية.
2: مظاهر الاختلاف بين الحق في التراجع وطلب فسخ العقد بالإرادة المنفردة
أ- من حيث الأساس:
يتأسس الحق في فسخ العقد، على جانب من قواعد العدالة ومبادئ حسن النية، فالعدالة تقضي بعدم التزام شخص بعقد لم ينفذ طرفه الآخر الالتزام المقابل، كما تقضي أيضا برفع الظلم ولا سبيل لذلك في هذه الحالة، سوى فسخ العقد.
كما أنه مما يتنافى مع مبادئ حسن النية الإبقاء على عقد لم يقم أحد طرفيه بتنفيذ الالتزامات الناشئة عنه وذلك خلافا للحق في التراجع عن التعاقد، الذي نجد أساسه في كل من مبدأ سلطان الإرادة وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين متى كان اتفاقيا، وفي فكرة العقد غير اللازم إذا كان ثابتا بحكم الشرع أو نص خاص في القانون.
ب- من حيث الطبيعة:
من المعلوم أن الفسخ يعد بمثابة جزاء لعدم قيام المدين بتنفيذ التزامه العقدي، ولأن مناط الفسخ هو عدم التنفيذ، نجده قد اكتسب خصائص النظام الجزائي وهو جزاء بالمعنى الواسع الذي لا يفيد معنى العقوبة، وإنما يعبر به عن كل وسيلة لحماية أمر قانوني.
بينما الحق في التراجع عن التعاقد هو حق إرادي محض يبتعد عن فكرة الجزاء المشار إليها في ضوء هدفه المتمثل في الاستيثاق من رضا المستهلك، فيما يتعلق بتمهله وتريثه لدى إبرام العقد، في حين أنه لا يترتب على أعمال الحق في التراجع عن التعاقد سداد أي مبالغ على سبيل التعويض فهو لم يرتكب أي خطأ، ولم يترتب على تصرفه أي ضرر.
أما تقرير الفسخ فقد يصاحبه الحكم بالتعويض رغم أن الدائن استرد ما سدده، وأساس التعويض في هذه الحالة المسؤولية التقصيرية، لأن الفسخ يؤدي إلى زوال العقد، وبناء عليه يتم تقدير التعويض طبقا للقواعد العامة في هذا النوع من أنواع المسؤولية.
ج- من حيث إمكانية التنفيذ الجزئي:
لا يجوز لمن تقرر له الحق في التراجع عن التعاقد إذا اختار تنفيذ العقد، أن يتعلق ذلك بجزء في العقد دون الجزء الآخر أما في حالة فسخ العقد، فإنه إذا كان المبيع قابلا للتجزئة، وقام المدين بتسليم جزء منه مطابق للمواصفات المشترطة في العقد. دون الجزء الآخر، فاللدائن استعمال حق الفسخ بالنسبة للجزء الأخير فقط.
د- من حيث المدة التي يجوز فيها ممارسة الحق في الفسخ والحق في التراجع :
تخضع دعوى الفسخ للتقادم العادي مادام أن المشرع لم يورد لتقادمها مددا خاصة، في حين أن الحق في التراجع عن التعاقد لا يخضع لهذه المدة الطويلة، لأن هذا الأخير، يمارس خلال أيام معدودة حددها المشرع المغربي في قانون 08-31 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك.
ويبقى الأصل في الفسخ أن يكون قضائيا، ويقدر القاضي مدى قانونية الطلب المرفوع إليه من طرف الدائن بعد إثباته للإخلال العقدي الواقع من طرف مدينه، ويشترط القضاء أن يتحقق نوع من الخطورة في هذا الإخلال، وإذا قدم طلب الفسخ من قبل الدائن، وقررت المحكمة أن شروط الفسخ غير محققة بالشكل الذي حدده بها المشرع، وقررها قضاء، قضت بالفسخ وإلا قضي برفضه، ويشكل هذا الرفض صورة من صور الإبقاء على العقد حيث يبقى التنفيذ العيني واجب الإعمال.
الفقرة الثانية: تمييز الحق في التراجع عن طلب إبطال العقد لتعيب الإرادة
يتميز الحق في التراجع عن التعاقد عن طلب إبطال العقد بالإرادة المنفردة، بسبب تعدد أوجه التشابه والاختلاف بين كل من التصرفين وهذا ما نوضحه فيما يلي:
1– فيما يتعلق بمحل الحماية:
يعالج حق التراجع عن التعاقد، رضا المستهلك من ذلك الجانب الذي يشير إلى أن تصرفه، وإقباله على التعاقد قد أتى بشكل متسرع، ودون تروي، في الوقت الذي تهدف فيه نظرية عيوب الرضا إلى ضمان رضا المتعاقد حرا وصحيحا وواضحا، وهو ما يمكن معه القول بأن عدم التأني وعدم التمهل، وإن كان لا يدرج ضمن عيوب الإرادة التقليدية، إلا أنه يتعلق بالرضا والإرادة أيضا ليس في شكلها القديم وإنما في مظهر جديد لها هو عيب التسرع في التعاقد.
2 – فيما يتعلق بمجال الحماية:
يتحدد مجال الحماية في نظرية عيوب الإرادة بالنظر إلى سلوك المتعاقد الآخر، الذي قد يساهم في تعييب إرادة المستهلك من خلال إيقاعه في غلط، أو جعله ضحية غش أو تدليس أو إكراه على نحو يدفعه إلى التعاقد، بينما الملاحظ في الحق في التراجع عن التعاقد هو حماية المستهلك من ضعفه الشخصي والذاتي وإنما أيضا حمايته ضد نفسه، في موضوع المعاملة، حيث لا مجال يثار فيه سلوك البائع، وحتى فيما يتعلق بالغبن الاستغلالي، فإن المقصود من منح المستهلك الحق في التراجع عن التعاقد ليس حمايته من استغلال البائع له والناتج عن انعدام خبرته ومعرفته وإن كان ذلك يؤثر على إرادة المستهلك. ورغبته في التعاقد جاءت متسرعة دون ترو أو تمهل، لذلك يتميز حق التراجع بأنه سبب شخصي لزوال العقد وليس سببا موضوعيا له.
3- فيما يتعلق بنطاق الحماية:
لا يمتد إعمال الحق في التراجع عن التعاقد إذا كان تشريعيا ليشمل كل تعامل بين المستهلك والمهني، وإنما يقتصر على تعاقدات معينة، قدر المشرع فيها أهمية منح المستهلك هذا الحق مثلا كالبيع خارج المحلات التجارية والبيع عن بعد وعقود القرض الاستهلاكي. على اعتبار أن المهني عندئذ يحاول بوسائل الإغراء والتسهيلات المختلفة، انتزاع رضا المستهلك دون ترو منه أو تفكير، في أمر التعاقد وذلك خلافا لنظرية عيوب الإرادة التي تصلح للتطبيق على كافة المعاملات.
4- فيما يتعلق بممارسة الحق في التراجع عن التعاقد أو طلب إبطال العقد بالإرادة المنفردة:
من المعلوم أن الحق في التراجع عن التعاقد يتم بالإرادة المنفردة، شأنه شأن طلب إبطال العقد بالإرادة المنفردة لتعيب الإرادة، يتميز أيضا بأن إعماله يكون دون الحاجة إلى اللجوء إلى القضاء، أما طلب إبطال العقد فلا يتم في الغالب إلا بضرورة اللجوء إلى القضاء.
خاتمة:
في الأخير يمكن القول أن تكريس هذا الحق من قبل المشرع في العقود الاستهلاكية يبرهن على قصور النظرية العامة للالتزامات في حماية الطرف الضعيف في العقد، ذلك أنه في بعض الأحيان لا يشوب إرادة المستهلك أي عيب ونظرا لتسرعه في إبرام عقد البيع بينه وبين المهني، يجد نفسه قد أقدم على التزامات لا يمكنه تحملها، وبالتالي فإن هذه المؤسسة تساهم في منح فترة تأمل للمستهلك تمكنه في مرحلة ثانية وبترو وبعد الإطلاع على كافة بنود العقد تمكنه إما من التراجع عن التعاقد في المدة الزمنية المحددة طبقا للقانون 08-31 وإما المواصلة في العملية التعاقدية.
لائحة المراجع:
المراجع باللغة العربية
الحسين بلحساني، أساس الالتزام بتبصير المستهلك ومظاهره، المجلة المغربية للاقتصاد و القانون، العدد الرابع، دجنبر 2000،
أبو بكر مهم، الوسائل الوقائية لحماية المستهلك، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، 2003/2004
محمد الشرقاني، نظرية العقد، المنشورات الجامعية المغاربية، الطبعة الأولى، مراكش 1996، ص: 157-158.
شكري السباعي ، نظرية الغلط و التدليس قي قانون الالتزامات و العقود، ط،1972 ، ص .13
محمد شكري السباعي، نظرية بطلان العقود و إبطالها في قانون الالتزامات و العقود، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، طبعة 1974،
– مساعد زيد عبد الله المطيري: “الحماية المدنية للمستهلك في القانونين المصري والكويتي رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق القاهرة 2007،
– محمد بودالي: حماية المستهلك في القانون المقارن، دراسة مقارنة، دار الكتاب الحديث، دون ذكر سنة الطبع، ص 145.
– عامر قاسم أحمد قيسي: “الحماية القانونية للمستهلك”، دراسة في القانون المدني والمقارن الدار العلمية الدولية ودار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى 2002، ص 101.
– عمر محمد عبد الباقي، الحماية العقدية للمستهلك- دراسة مقارنة بين الشريعة و القانون -، منشأة المعارف الإسكندرية، دون ذكر تاريخ الطبعة.
– عبد القادر العرعاري: مصادر الالتزامات، الكتاب الأول نظرية العقد، الطبعة الثانية 2005 الرباط، ص 221.
2 تعليقات