الغرامة التهديدية في التحكيم: جدلية الضرورة العملية وغياب النص القانوني الباحثة : وعد حسن زمرد الدكتور : مؤيد زيدان
[]
الغرامة التهديدية في التحكيم: جدلية الضرورة العملية وغياب النص القانوني
باحثة دكتوراه، قسم القانون الخاص، كلية الحقوق، جامعة دمشق
مدرس في قسم القانون الخاص، كلية الحقوق، جامعة دمشق
هذا البحث منشور في مجلة القانون والأعمال الدولية الإصدار رقم 59 الخاص بشهر غشت / شتنبر 2025
رابط تسجيل الاصدار في DOI
https://doi.org/10.63585/KWIZ8576
للنشر و الاستعلام
mforki22@gmail.com
الواتساب 00212687407665

الغرامة التهديدية في التحكيم: جدلية الضرورة العملية وغياب النص القانوني
باحثة دكتوراه، قسم القانون الخاص، كلية الحقوق، جامعة دمشق
مدرس في قسم القانون الخاص، كلية الحقوق، جامعة دمشق
ملخص
تعد سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية على أطراف خصومة التحكيم من بين سلطات المحكم التي ثار جدل كبير بشأنها، لإجبار المدين على الوفاء بالالتزامات التي يفرضها عليه المحكم.
وانقسمت التشريعات ومعها الفقه في مدى تمتع المحكم بسلطة فرض الغرامة التهديدية، فمنها ما أنكر على المحكم هذه السلطة، وقصرها على القضاء فقط، ومنها ما أقر له بهذه السلطة حتى وإن سكتت التشريعات عن تقريرها باعتبارها سلطة ملازمة لمهمة المحكم.
والغرامة التهديدية بطبيعتها وسيلة لحمل أو أكراه المدين على تنفيذ الالتزامات التي يفرضها المحكم، وهي ذات طبيعة مؤقتة يمكن للمحكم إعفاء المدين منها إذا وجد أنه قد عدل عن سلوكه الرافض لتنفيذ قرارات المحكم أو هيئة التحكيم بحسب الأحوال، وأنها ذات طبيعة تبعية تلحق بامتناع المدين عن تنفيذ إجراء من الإجراءات التحفظية أو الوقتية أو تنفيذ حكم نهائي من أحكام التحكيم.
وأخيراً، نجد أن هناك توجهاً من جانب الفقه الحديث إلى إقرار سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية باعتبارها وسيلة لتمكين المحكم من تنفيذ مهمته، وهي الفصل في النزاع بحكم منهي للخصومة.
الكلمات المفتاحية: تعويض- سلطة المحكم – غرامة تهديدية
The threatening fine in Arbitration: A dialectic Between Practical Necessity and the Absence of Legal Text
Waad zomorod
PhD student, department of private law, faculty of law, Damascus university
Prof. dr. mouayad zeidan
professor in the department of private law, faculty of law, Damascus university
Abstract
The authority of the arbitrator to impose the threatening fine one of his authorities upon which great debate rose to obligate the debtor to fulfill his obligations that are imposed by the arbitrator.
Legislations are divided towards the power of the arbitrator to impose the threatening fine; some of these legislations denied the authority of the arbitrator to impose the threatening fine, and this authority is exclusively for the judge. The other part of these legislations ratified the authority of the arbitrator to impose the threatening fine, as this authority is associated to the mission of the arbitrator.
The threatening fine is a way to obligate the debtor to fulfill his obligations that are imposed by the arbitrator; this fine is temporary in nature, the arbitrator could exonerate the debtor if he fulfilled his obligations, and modified his acts refusing to execute the decisions of the arbitrator. In addition, this fine is accessory in nature that could be imposed after refusing the debtor to execute a final arbitral sentence or conservative measurements.
Finally, the new trend in the jurisprudence is imparting the arbitrator the authority to impose the threatening fine as a way that empowers the arbitrator to entrench litigates.
Key Words: Compensation – arbitrator’s authority – threatening fine
مقدمة
العدالة لا تتحقق بمجرد قضاء المحكم بالتعويض، بل يجب أن يكون لدى المحكم من الأدوات التي تمكنه من تنفيذ حكمه، ومن هذه الوسائل فرض الغرامة التهديدية على الطرف الرافض لحمله على تنفيذ الحكم، من خلال مقارنة قيمة الغرامة التهديدية التي في كثير من الأحيان تفوق قيمة التعويض المقضي به، وهو ما يمكن القول معه أن تأثير الغرامة التهديدية هو تأثير سيكولوجي أكثر من كونه تأثير قانونيا.
إشكالية الدراسة:
تكمن إشكالية الدراسة فيما ثار من جدل بشأن تخويل المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية لحمل الطرف الذي صدر الحكم ضده على تنفيذه، وما إذا كان يتوفر للمحكم سلطة الإجبار على القيام بذلك، ومدى اختلاف طبيعة الغرامة التهديدية عن التعويض.
أما الإشكالية الأخيرة التي عالجتها الدراسة الحالية فقد تمثلت في الخلط ما بين فرض الغرامة التهديدية وتصفية الغرامة التهديدية، على الرغم من الاختلاف الكبير بين الإجراءين.
أهمية البحث:
تكمن أهمية الدراسة في بيان مدى سلطة المحكم في تنفيذ الأحكام الصادرة عنه تحت الغرامة التهديدية، والأدلة المؤيدة لمنحه هذه السلطة، كما تبرز أهمية الدراسة في بيان التأصيل القانوني لسلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية في النظام القانوني السوري، في ضوء صمت التشريعات، وندرة اجتهادات القضاء في هذا الخصوص.
هدف الدراسة:
تبيان أهمية الغرامة التهديدية في فاعلية تنفيذ أحكام التحكيم، وضرورة النص القانوني عليها في القوانين والتشريعات.
منهجية البحث:
وفى سبيل تحقيق الدراسة لأهميتها، فقد استخدمت المنهج التحليلي المقارن، من خلال تحليل نصوص القانون أو لوائح مراكز التحكيم ذات الصلة ومقارنتها في ضوء القانون والقضاء المقارن لاستخلاص النتائج، وتقديم التوصيات المناسبة لحل إشكالية البحث.
خطة البحث:
تتكون الدراسة من مبحثين، يعالج المبحث الأول: ماهية وأهمية الغرامة التهديدية والموقف القانوني والفقهي إزاء فرضها، ويتكون من مطلبين: يعالج المطلب الأول: مفهوم الغرامة التهديدية وأهميتها في التحكيم، بينما يعالج المطلب الثاني: الاتجاهات المختلفة بشأن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية.
كما يعالج المبحث الثاني: أحكام التحكيم التي يجوز للمحكم فرض الغرامة التهديدية لتنفيذها، ضمن مطلبين، يعالج المطلب الأول: فرض الغرامة التهديدية للأحكام التمهيدية والإجراءات التحفظية، ويعالج المطلب الثاني: فرض الغرامة التهديدية للأحكام النهائية، وهو ما نعالجه على النحو التالي:
المبحث الأول: ماهية وأهمية الغرامة التهديدية والموقف القانوني والفقهي إزاء فرضها.
المبحث الثاني: أحكام التحكيم التي يجوز للمحكم فرض الغرامة التهديدية لتنفيذها.
المبحث الأول:
ماهية وأهمية الغرامة التهديدية والموقف القانوني والفقهي إزاء فرضها
تقتضي العدالة ألا يقتصر دور المحكم على إصدار الحكم، بل من الأهمية بمكان مساعدة الطرف الذي صدر الحكم لصالحه، وهو ما يقتضي تخويل المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية، وهو ما نعالجه في المطلبين التاليين:
المطلب الأول:
مفهوم الغرامة التهديدية وأهميتها في التحكيم
أولاً: تعريف الغرامة التهديدية وتطورها
تعرف الغرامة التهديدية بأنها مبلغ من المال يوقعه القاضي بصورة يومية أو شهرية أو بوحدة زمنية أخرى على الشخص الممتنع عن تنفيذ قرار قضائي صادر عن أي جهة كانت إلى أن يتم تنفيذ الحكم أو القرار.
بالرجوع إلى أصل الغرامة التهديدية نجد أنها نشأت في فرنسا في بداية الأمر بقصد حمل جهة الإدارة على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، ومنع تعسفها تجاه المحكوم له، وكانت نشأة الغرامة التهديدية من ابتكار القضاء الفرنسي، قبل أن يتم تقنين فرضها، إذ أيدت محكمة النقض الفرنسية عام 1834 حكما يفرض غرامة تهديدية على الطرف الممتنع عن تنفيذ الحكم، رغم أن هذا المسلك من جانب القضاء الفرنسي قد لاقى انتقادا لكونه تصرفاً لم يكن له سنداً قانونياً، وأن القاضي في هذا الأمر قد حل محل المشرع، إلى أن صدر القانون 626/72 بتاريخ 5 يوليو 1972، الذي أجاز للقاضي لفرض الغرامة التهديدية حال الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية، وهو أمر رأى فيه الفقه وسيلة لترسيخ العدالة.
وبذلك نرى أنه جدت الغرامة التهديدية في بداية الأمر لحمل أشخاص القانون العام على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، أو كجزاء وقائي، إذ وقع القاضي الإداري في 10 يوليو 2020 أكبر غرامة تهديدية يمكن أن يوقعها قاضي إداري لعلاج مشكلات التلوث الكبير للهواء في مناطق عديدة من فرنسا، ثم توسع تطبيق الغرامة التهديدية، فلم تعد قاصرة على تنفيذ الأحكام الإدارية فقط، بل امتدت إلى مجال القانون المدني والتحكيم، كما لم يعد فرض الغرامة التهديدية قاصر على جهة الإدارة، بل يمكن توقيعها على الأفراد أيضاً، إذ لا يوجد نص يقصر فرض الغرامة التهديدية على الإدارة فقط، في حالة التحكيم في العقود الإدارية، ولكن تمتد لتشمل فرض الغرامة التهديدية على كل أطراف نزاع التحكيم. ويمكن للمحكم تعديل الغرامة التهديدية بالزيادة إذا ما امتنع من وجهت إليه عن تنفيذ الحكم، أو وجدت أنها غير كافية لذلك.
وقد أثبتت الغرامة التهديدية فاعلية في حمل المدين على تنفيذ التزاماته، ومن هنا انتقل تطبيقها إلى مجال التحكيم، باعتبار أن التحكيم هو قضاء بديل يمكن للأطراف اللجوء إليه لتسوية نزاعاتهم بعيداً عن أروقة المحاكم.
ثانياً: الطبيعة القانونية للغرامة التهديدية ومدى أهميتها
الغرامة التهديدية، وكما يوحي اسمها، لها صفة تهديدية، هي إجراء ضاغط يهدف إلى تشجع أطراف خصومة التحكيم على التنفيذ الطوعي لالتزاماتها، وهي قرار يقضي به المحكم، وهذا الالتزام هو التعويض الذى قضى به المحكم إذا كنا بصدد حكم تحكيم نهائي من خلال تهديده بفرض غرامة أعلى من قيمة التعويض ذاته حال الامتناع أو حتى التأخير في تنفيذ الالتزامات، أو حكم وقتي لحمله على تنفيذ أمر يكفل حسن سير العدالة، مثل تقديم مستند بحوزته من شأنه أن يساعد هيئة التحكيم بالفصل في النزاع المطروح عليها، والغرامة التهديدية في حد ذاتها ليست وسيلة تنفيذ، وهو ما رأى معه الأستاذ Cayrol أن الغرامة التهديدية وسيلة للحث على التنفيذ الطوعي أو الاختياري.
يعد قضاء التحكيم قضاء بديل، تهدف الأطراف باللجوء إليه إلى تسوية المنازعات التي تنشأ عن تعاملاتها بعيداً عن أروقة المحاكم، ولا يكون لحكم التحكيم أية قيمة قوية مبدئيا قبل اللجوء للقضاء لتنفيذه في حال عمد امتثال المدين لتنفيذه طواعية، حتى وإن تم إصداره في التوقيت المناسب، وبالقيمة العادلة ما لم يتوفر للمحكم من الأدوات اللازمة لتنفيذ هذا الحكم، وهو ما دعى البعض إلى القول بتقاسم كلاً من القضاء والتحكيم سلطة حمل المدين على تنفيذ حكم التحكيم الصادر ضده، ففي التحكيم الوطني يتم تنفيذ الحكم الصادر بعد إكسائه بالصيغة التنفيذية، أما في التحكيم الدولي فيكون تنفيذ الحكم من خلال الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، منها اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها.
يرى جانب من الفقه أنه قبل أن يستخدم المحكم سلطته في إرساء العدالة العقدية من خلال فرض الغرامة التهديدية فمن الضروري إصدار أوامر قضائية إلى جهة الإدارة وهي بصدد تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة عنه، إذ يرى جانب من الفقه ضرورة أن يكون فرض الغرامة التهديدية مصحوباً بإصدار أوامر، بقصد زيادة فاعلية هذه الأوامر، وهو أمراُ يمكننا استخلاصه من نص المادة 911-1 من قانون العدالة الإدارية، التي ذكرت الأوامر القضائية قبل الغرامة التهديدية في الفرض لحمل الإدارة على تنفيذ أحكام القضاء الإداري.
وفي سوريا، لم نجد في قانون التحكيم السوري رقم 4 لسنة 2008 ثمة إشارة إلى سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية، وإن كانت المادتين 214 و215 من القانون المدني السوري قد تضمنتا سلطة القاضي في فرض الغرامة التهديدية لحمل المدين على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً إذا كان الالتزام عمل، أو الامتناع عن قيام بعمل.
ولكن يمكن القول بالرجوع إلي المادة 214/1 من القانون المدني السوري، المادة 213/1 من القانون المدني المصري أن المحكم لا يمكنه فرض الغرامة التهديدية من تلقاء نفسه، بل لا بد أن يكون توقيعها بناء على طلب من جانب من صدر لصالحه حكم التحكيم، ووجد تعنتاً من الطرف الآخر في تنفيذ الحكم.
والغرامة التهديدية بحكم وظيفتها التي أنشأت من أجلها هي التأثير نفسياً على المدين بمعاقبته مالياً حال عدم الامتثال لأوامر القاضي، فإن الحكم بالغرامة التهديدية حكم غير نهائي، ومن ثم وكما يرى جانب من الفقه أن قانون أصول المحاكمات المدنية السوري لا يجيز التنفيذ بمقتضى حكم صادر بغرامة تهديدية، لأنه حكم تهديدي وليس حكم قطعي، وإن كان هناك من التشريعات التي خلطت ما بين سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية وتصفية الغرامة التهديدية، معتبراً الحكمين واحداً، وهو أمر يجافى في حقيقة الحال طبيعة الغرامة التهديدية.
علاوة على الطبيعة التهديدية للغرامة التهديدية، فإن الغرامة التهديدية ذات طبيعة تبعية، أي يصدرها القاضي أو المحكم بحسب الأحوال نتيجة امتناع المدين عن تنفيذ حكم أو قرار، سواء كان هذا الحكم نهائي كما ذهب الفقه الحديث في توسع لصلاحيات المحكم، أو حكم مؤقت بإجراء تحفظي بهدف حماية الحق المتنازع عليه، دون المساس بأصل هذا الحق.
أما السمة الأخرى من سمات الغرامة التهديدية أنها ذات طابع مؤقت، يمكن للمحكم تحديده بناء على تصرف المدين، فإذا كان فرض المحكم للغرامة التهديدية بسبب امتناع المدين عن تنفيذ إجراء تحفظي، ثم وقع عليه المحكم وعدل المدين عن تصرفه جاز للقاضي إعفاءه من هذه الغرامة، أما إذا وجد مزيداً من التعنت من جانبه، وأن الغرامة التي فرضها عليه غير كافية لحمله على الامتثال لقرار المحكم جاز له زيادة قيمة تلك الغرامة التهديدية.
والسمة الثالثة من سمات الغرامة التهديدية فهي كون الغرامة التهديدية ذات طابع تقديري، حيث يمكن للقاضي أو للمحكم بحسب الأحوال فرضها دون أن يلحق الدائن ضرر، إذ أن عماد فرضها هنا هو مدى تعنت المدين، وعدم امتثاله لقرارات المحكم أو هيئة التحكيم.
بصورة عامة يمكن أن يقضي القاضي أو المحكم بغرامة تهديدية تفوق قيمة التعويض المقضي به، والذي يمتنع الطرف الآخر عن تنفيذه، لأن الغرامة التهديدية لا تخضع لذات النظام القانوني الذي يخضع له التعويض، إذ أن التعويض يجب أن يكون متناسباً مع الضرر الذى تحمله المضرور، وهو أحد سمات التعويض العادل.
ويرى جانب من الفقه أن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية تكون أكثر ملائمة في حالة التعويض العيني، إذ قضت محكمة استئناف باريس بتاريخ 26 يناير2021، بمناسبة نظرها طعناً على حكم محكمة التحكيم في غرفة التجارة الدولية، بصحة الحكم الصادر عن محكمة التحكيم في غرفة التجارة الدولية، التي قضت بإلزام أحد طرفي النزاع بتنفيذ بروتوكول الصفقة الذي امتنع عن تنفيذه، وقضت بغرامة تهديدية قدرها 40 ألف دولار أمريكي عن كل يوم تأخير.
وهناك مثال آخر يبين ملاءمة الغرامة التهديدية لحمل أحد أطراف خصومة التحكيم على تنفيذ الحكم الصادر بالتعويض العيني، إذ قضت محكمة استئناف باريس بتاريخ 15 يناير 2019 بتأييد الحكم الصادر عن هيئة التحكيم بإلزام شركة AVIVA VIE بتسليم 150 قائمة بأسماء المكتتبين في الشركة.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول أن الغرامة التهديدية هي إجراء ذو طبيعة مالية، يمكن للمحكم اللجوء إليه لحمل الطرف الصادر ضده الحكم بالتعويض على تنفيذه، خاصة إذا كان التعويض ذو طبيعة عينية، وإن كان هذا لا يمنع المحكم من استخدام سلطته في فرض الغرامة التهديدية حال امتناع الطرف المحكوم ضده عن تنفيذ الحكم الصادر بالتعويض النقدي، كما أن الغرامة التهديدية تختلف في طبيعتها وفى وظيفتها عن التعويض.
المطلب الثاني:
الاتجاهات المختلفة بشأن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية
بالرجوع إلى طبيعة سلطة القاضي في فرض الغرامة التهديدية على المدين لحمله على تنفيذ حكم التحكيم، نجد أن الحكم بالغرامة التهديدية هو حكم تابع للحكم الصادر بالتعويض، كما أنه لا يتطلب من المحكم تسبيب الحكم بالغرامة التهديدية.
وبشأن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية على الطرف الآخر لحمله على تنفيذ حكم التحكيم فقد انقسم الفقه إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: يرفض هذا الاتجاه فرض المحكم للغرامة التهديدية، ويمثله الأستاذ بواسيسون Boisséson، الذي أوضح أن المحكم لا يمكنه توجيه أوامر إلى الطرف الآخر، أو فرض غرامة تهديدية عليه لحمله على تنفيذ حكم التحكيم، فإن التنفيذ الجبري للغرامة التهديدية يقع في نطاق اختصاص القاضي الوطني، إلا أن ظاهر القول أن حديث الأستاذ بواسيسون ينصب على التحكيم في منازعات العقود الإدارية، باعتبار أن الجهة الإدارية تجد حرجاً في توجيه المحكم أوامر أو غرامة تهديدية إليها.
وشاطره الرأي جانب آخر من الفقه، الذى خلص، هدياً بما قضت به الدائرة التجارية في محكمة استئناف باريس، إلى أن فرض الغرامة التهديدية يقع في نطاق اختصاص القاضي، ويتجاوز مهمة المحكم، كما أن هذا الحكم لم يشر إلى سلطة المحكم أو هيئة التحكيم بحسب الأحوال في تصفية الغرامة التهديدية على فرض توقيعها، وإنما يقتصر توقيعها على قاضي الدولة.
وذهب جانب من الفقه أنه ليس للمحكم فرض الغرامة التهديدية على أحد أطراف خصومة التحكيم لحمله على تقديم مستند بحوزته يفيد المحكم في الفصل في النزاع.
ويرى الأستاذان برويه- تيري Perrot et Thery أنه من غير الممكن للمحكم فرض الغرامة التهديدية لحمل المدين على تنفيذ التزام صادر ضده، فالغرامة التهديدية هي إدانة نقدية يقضي بها القاضي في مواجهة المدين، ويتم تنفيذها كرهاً عنه لحمله على القيام بفعل، أو الامتناع عن القيام بفعل، وأنه إذا ما أراد المحكم عمل ذلك فعليه اللجوء إلى قاضى الدولة، وإن كان للغرامة التهديدية تأثير نفسي على المدين يحمله على تنفيذ قرارات العدالة بصورة فورية.
ووجه جانب من الفقه سهام النقد إلى تخويل المحكم سلطة تنفيذ الحكم تحت الغرامة التهديدية، بمقولة أن هذا يشكل تعويضين للمضرور عن خطأ واحد، وهو ما يشكل إثراء للمضرور بلا سبب، وهذا الرأي مردود عليه بالقول أن هناك اختلاف بين التعويض والغرامة التهديدية، فالتعويض هو جبر لضرر لحق المضرور، يدخل في الذمة المالية للمضرور، في حين أن الغرامة التهديدية هي تدبير ذو طبيعة مالية، لا يقضي به المحكم للطرف الذي صدر لصالحه حكم التحكيم، ولا تعدو أن تكون الغرامة التهديدية مجرد وسيلة لحمل من صدر الحكم ضده على تنفيذ الحكم، ولا تدخل الذمة المالية للمضرور، وهو الرأي الذى نشيده على حكم محكمة النقض الفرنسية التي قضت بأن الغرامة التهديدية هي إجراء تهديدي وقائي مستقل تماماَ عن التعويض.
والغرامة التهديدية، كما خلصت محكمة النقض الفرنسية، هي وسيلة للضغط، وذات طبيعية تهديدية، إلا أن المحكم لا يملك سلطة الجبر أو الإكراه لتهديد الطرف الممتنع عن تنفيذ التزاماته.
وعن موقف المشرع في الجمهورية العربية السورية من سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية، نجد أن قانون التحكيم السوري لم يعالج سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية تصريحاً أو تلميحاً، وهو في رأينا لا ينكر سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية، فالأصل في الأشياء الإباحة، والحظر هو الاستثناء، ولا يكون الاستثناء إلا بقانون، فلو كان المشرع يرغب في حظر ممارسة المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية لنص على ذلك صراحة، إلا أن المطلق يجرى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده.
الاتجاه الثاني: ويرى أنصار هذا الاتجاه أنه ليس هناك ما يمنع المحكم التجاري الدولي من اتخاذ التدابير اللازمة لضمان تنفيذ حكم التحكيم، ومنها الغرامة التهديدية، وتكون في صورة حكم قضائي قابلاً للإكساء بالصيغة التنفيذية d’exequatur، وهو أمر فرضته الضرورة الوظيفية التي يمارسها المحكم الذي يمارس ذات الصلاحيات التي يمارسها القاضي، فلا يكون معقولاَ أن نطلب منه تحقيق العدالة، ونجرده من كل سلاح يمكن له أن يحقق العدالة من خلاله.
وبالرجوع إلى القانون المدني السوري نجد أنه قد أجاز للقاضي فرض الغرامة التهديدية بناء على طلب الدائن، إلا أن هناك من ذهب خلاف ذلك، مقرراً أن المحكم مثله مثل القاضي يمكنه أن يوقع الغرامة التهديدية على الطرف الممتنع عن تنفيذ أحكامه، وأن الغرامة التهديدية المتعلقة بالتنفيذ هي قرار القاضي، ومن ثم فلا يجوز أن يكون توقيعها رهنا بتقديم أحد أطراف خصومة التحكيم طلباً بذلك. وقد فطنت أحكام القضاء الفرنسي فيما بعد إلى خطورة هذا الوضع، إذ قضت محكمة استئناف باريس بأن الأمر بالغرامة التهديدية أو إصدار أوامر امتداد طبيعي وضروري لوظيفة المحكم من أجل ضمان فاعلية عملية التحكيم، شريطة ألا تتجاوز سلطة ومهمة المحكمة، أو قيمة النزاع.
ويرى الأستاذ كابلان Kaplan أنه من الضروري تخويل المحكم سلطة الجبر أو الإكراه coercitif بما يمكنه من تنفيذ مهمته، وهي الفصل في النزاع الذي نشب بين الأطراف بمناسبة تنفيذ عقد من العقود، ومن ثم فإن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية، مثل غيرها من سلطات المحكم مستمدة من رضاء أطراف خصومة التحكيم، وفي حقيقة الأمر فإن رأى الأستاذ كابلان بشأن ضرورة تخويل المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية قد شيده على حكم لمحكمة استئناف باريس في قضية Société Torno SpA / Société Kagumai Gumi Co Ltd، التي قضت أن عدم تخويل المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية يحرمه من كل سلطة جبر أو إكراه تجاه أطراف خصومة التحكيم والغير، بما يجعل عملية التحكيم قليلة الفاعلية بالنظر إلى الغرض الذى شرع التحكيم من أجله كقضاء خاص، وهو سرعة الفصل في النزاع.
ونلاحظ أن هذا الاتجاه لم ينكر على المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية كأحد الوسائل لحمل الطرف الذي صدر حكم التحكيم ضده على الامتثال له وتنفيذه، في إطار التعاون بين التحكيم والقضاء الوطني، ولكن وفقاً لشرطين:
الشرط الأول: أن يصدر الحكم بالغرامة التهديدية في صورة حكم مستقل، وليس في صلب حكم التحكيم، ومرد ذلك أن الحكم بالغرامة التهديدية هو حكم تبعي، وأن الغرامة التهديدية تنطوي على معنى الإكراه والتهديد، فمن الممكن أن يتجه الطرف الذي صدر حكم التحكيم ضده إلى تنفيذه طواعية، دون الحاجة لإكراهه، لكون أحد الأسباب الأساسية التي تدعو أطراف النزاع للتحكيم هو الرغبة في الحفاظ على العلاقة الطيبة بين الأطراف.
الشرط الثاني: وهو ضرورة إكساء الأمر الصادر بالغرامة التهديدية بالصيغة التنفيذية حتى يمكن تنفيذه تنفيذاً جبرياً، مثله في ذلك مثل الأحكام الوطنية، وهو المقتضى الشكلي الذي أقرت به الدائرة التجارية في محكمة باريس بتاريخ 11 أيار 2021، بقولها أن فرض الغرامة التهديدية كإجراء تحفظي يجب أن يصدر من المحكم، ثم تذييله بالصيغة التنفيذية حتى يمكن تنفيذه وفق طريقة تنفيذ الأحكام الوطنية، ومن بينها التنفيذ الجبري.
وقضت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر بتاريخ 15آذار 1995 أن القضاء بالغرامة التهديدية بهدف ضمان تنفيذ الحكم يشكل ضرورة للمحكم لتنفيذ وظيفته، وقضت محكمة باريس بتاريخ 7 تشرين الأول 2004 أن فرض المحكم للغرامة التهديدية على أطراف خصومة التحكيم سلطة فرضتها الضرورة الوظيفية، ولا يشكل تجاوزاً من جانب المحكم لمهمته المنصوص عليها في وثيقة التحكيم، وهو موقف عززته محكمة التحكيم في غرفة التجارة الدولية، التي قضت أنه من غير العدالة أن تجري محكمة التحكيم عملية تحكيم عادلة، وهناك مستند حاسم في الفصل في النزاع خارج سلطة أو سيطرة محكمة التحكيم.
وفي فرنسا، قطع المشرع كل جدل بشأن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية مع تعديل قانون التحكيم عام 2011، فنصت المادة 1467/3 من قانون التحكيم على سلطة هيئة التحكيم في فرض غرامة تهديدية على أحد أطراف النزاع لحمله على تقديم مستند بحوزته، كما نصت المادة 1468 من قانون التحكيم الفرنسي على سلطة المحكم في فرض غرامة تهديدية وغيرها من الإجراءات التحفظية والوقتية التي يختص القاضي بتوقيعها، وهو ما يعد مستحدثات قانون التحكيم الفرنسي التي تم إدخالها عقب تعديل القانون عام 2011.
أما الموضع الثالث لفرض المحكم للغرامة التهديدية في قانون التحكيم الفرنسي فنجده في نص المادة 1469، التي نصت على إصدار المحكم قراراً بالغرامة التهديدية، وإن كان هذا القرار غير قابلاً للنفاذ في ذاته، ومن ثم ضرورة تذييله بالصيغة التنفيذية، حتى يمكن تنفيذه بطرق التنفيذ الجبري.
وجاءت محكمة باريس في أحكامها الصادرة بتاريخ 26 كانون الثاني 2021، 12 كانون الثاني2021 لتأخذ موقفاً وسطاً بين رفض منح المحكم سلطة تقديرية وبين منحه هذه السلطة، وقضت أنه إذا كان من اختصاص القضاء فرض الغرامة التهديدية، فإن توقيعها يعد سلطة تقديرية متروكة للمحكم، يوقعها متى رأى في فرضها ضرورة للفصل في النزاع.
المبحث الثاني:
أحكام التحكيم التي يجوز للمحكم فرض الغرامة التهديدية لتنفيذها
سبق أن أسلفنا من قبل أنه من خصائص الغرامة التهديدية أنها تبعية، أي يفرضها القاضي أو المحكم بعد صدور حكم تحكيم، وبالنسبة للأحكام التي يجوز للمحكم فيها فرض الغرامة التهديدية، فقد انقسمت التشريعات التي أجازت للمحكم فرض الغرامة التهديدية إلى جواز فرض المحكم الغرامة التهديدية لتنفيذ الإجراءات التحفظية والوقتية، باعتبار ذلك وسيلة لتسهيل مهمة المحكم، في حين ذهب جانب آخر من التشريعات إلى سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية لتنفيذ أحكام التحكيم النهائية، ولكل منهما حججه وأسانيده، التي يمكننا بيانها على النحو التالي:
المطلب الأول:
سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية لتنفيذ الإجراءات التحفظية
ذهب جانب من التشريعات إلى القول بأن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية قاصرة على تنفيذ الأحكام التمهيدية والإجراءات التحفظية، باعتبار ذلك وسيلة لتسهيل مهمة المحكم دون أحكام التحكيم النهائية، لأن اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم لم تنص على تخويل المحكم هذه السلطة.
أما عن سلطة المحكم في تصفية الغرامة التهديدية، يرى جانب من الفقه، مؤيداً بجانب من أحكام القضاء الفرنسي أن المحكم يمكنه فرض الغرامة التهديدية في الأحكام التمهيدية لحمل المدين على الوفاء بالتزاماته أو حمله على تقديم مستند بحوزته، إلا أنه لا يمكنه تصفية قيمة الغرامة التهديدية لتعويض المضرور من عدم تنفيذ تلك الإجراءات التحفظية، وهو ما ذهبت إليه محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر بتاريخ 11 أكتوبر 1991، عندما قضت بأن القضاء هو المختص في تصفية الغرامة التهديدية، ولا يمكن لهيئة التحكيم القيام بذلك، لأن المحكمة هي المنوط بها نظر منازعات التنفيذ، كما أن قانون 9 حزيران 1991 قد نص على أن تصفية الغرامة التهديدية هي من اختصاص قاضي التنفيذ وليس من اختصاص القاضي الذي وقعها، ومن ثم وحتى أنه في حالة اختصاص المحكم بفرض الغرامة التهديدية فلا يكون من اختصاصه تصفية تلك الغرامة.
غير أن الأستاذ توماس كلى Clay كان له رأي مختلف، مقرراً أن للمحكم سلطة تصفية الغرامة التهديدية التي سبق أن فرضها، ومن الضروري أن يطلب من المحكم تصفية الغرامة التهديدية قبل صدور حكم نهائي.
ويمكن القول من خلال مطالعة أحكام التحكيم الصادرة عن مؤسسات التحكيم الدولية، مثل الأحكام الصادرة عن غرفة التجارة الدولية، أن اللوائح الداخلية لهذه المؤسسات تجيز للمحكم الفرد أو لهيئة التحكيم بحسب الأحوال أن تصدر الإجراءات التحفظية والوقتية، وفرض الغرامة التهديدية، في حالة الطوارئ إذا كان يترتب على القرار الذي اتخذه أحد أطراف خصومة التحكيم نتائج يتعذر تداركها.
ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنه قبل تعديل قانون التحكيم الفرنسي عام 2011 فقد كان فرض هيئة التحكيم الغرامة التهديدية على الطرف الممتنع عن تنفيذ الأوامر التحفظية رهناً بتقديم أحد أطراف خصومة التحكيم طلب لفرض الغرامة التهديدية على الطرف الممتنع، و تطبيقاً لذلك، فقد ألغت محكمة استئناف رينيه الأحكام التي أصدرتها هيئة التحكيم بفرض الغرامة التهديدية التي قضت بها هيئة التحكيم من تلقاء نفسها، وأنه يستلزم للقضاء بها أن يقدم أطراف خصومة التحكيم طلباً خاصاً للقضاء بها ().
إلا أنه مع تعديل قانون التحكيم الفرنسي عام 2011، فقد خول المشرع الفرنسي هيئة التحكيم سلطة إصدار أوامر بالغرامة التهديدية في المادة 1468 من قانون المرافعات المدنية والتجارية بقوله” وفي الحالات التي لا يمكن فيها لهيئة التحكيم الأمر بالغرامة التهديدية اتخاذ الإجراءات التحفظية والوقتية”.
والرأي الراجح لدينا أن المشرع في فرنسا قد خول المحكم سلطة فرض غرامة تهديدية على أطراف خصومة التحكيم في حالة امتناع أحد الأطراف عن تنفيذ الأوامر التحفظية والوقتية الصادرة عن المحكم أو القاضي حتى صدور حكم في الدعوى محل النزاع، سواء كان إجراء حفظي أو وقتي، نظراً للطبيعة المؤقتة لهذه الأوامر وعدم مساسها بأصل الحق المتنازع عليه والمطروح على التحكيم، فإن قيمة الغرامة التهديدية تخضع للمراجعة المستمرة لترى المحكمة مدى فعالية هذا الأمر بالغرامة، ولها أن تزيد قيمة الغرامة حال استمرار أحد أطراف خصومة التحكيم في الامتناع عن تنفيذ الإجراءات التحفظية والوقتية، وأن تعرض عنها حال زوال الأسباب التي أدت إلى إصدارها.
فضلاً عن ذلك، وعند تقدير الغرامة التهديدية يأخذ المحكم أو هيئة التحكيم ما يراه كافياً لتهديد المدين دون النظر إلى تناسب ذلك مع التعويض الذي يحكم به مستقبلاً، وله في سبيل ذلك زيادة قيمة الغرامة التهديدية متى وجد أن القيمة التي سبق وأن قدرها من قبل غير كافية لردع الطرف الرافض لتنفيذ أمر أو إجراء اتخذته هيئة التحكيم..
وهناك حالة ثانية يجوز فيها للمحكم فرض الغرامة التهديدية على طرف خصومة التحكيم الذي يمتنع عن تعيين محكمه.
وإذا كان القاضي يستمد سلطاته من قانون الدولة، فإن المحكم يستمد سلطاته من اتفاق التحكيم بين أطراف خصومة التحكيم والمحكم، وإعمالاً للأثر النسبي للعقود فإن العقد لا يلزم إلا عاقديه، ويمكن أن نصل هنا إلى نتيجة مفادها أن المحكم لا يمكنه فرض الغرامة التهديدية على الغير الذي بحوزته مستند يمكن أن يساعد في الوصول إلى الحقيقة والفصل في النزاع، وهو الأمر الذي نجده في كل من القانون السوري والمصري والفرنسي، وإن كان من الجائز أن للغير الذي بحوزته المستند أن يطلع المحكم عليه، دون أن يكون للمحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية على الغير حال رفضه.
أما المشرع السوري فقد أراد الخروج من هذه الإشكالية، فأجازت المادة 34/3 من قانون التحكيم السوري للمحكم اللجوء إلى قضاء الدولة ليأمر الغير الذي بيده المستند بتسليمه إلى المحكمة.
المطلب الثاني:
سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية لتنفيذ أحكام التحكيم النهائية
وعن دور سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية فلم نجد نصاً في قانون التحكيم السوري يقرر هذه السلطة للمحكم.
وخلص جانب من الفقه إلى القول أن للمحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية ضد الطرف الممتنع عن تنفيذ حكم التحكيم، ما دامت محكمة التحكيم لا تزال منعقدة، باعتبار أن هذا الاختصاص من الاختصاصات التبعية التي يمارسها المحكم حتى وإن لم ينص عليها اتفاق التحكيم، لكون سلطة المحكم هي الفصل في النزاع، ولا يكون النزاع قد تم الفصل فيه بمجرد صدور الحكم، إذ أن كمال الفصل في النزاع يكون بتنفيذ حكم التحكيم، تأسيساً على أسباب اللجوء إلى التحكيم، والتي من بينها سرعة الفصل في النزاع، وفى حقيقة الأمر فرأى الفقه سالف الذكر له ما يعززه في القضاء الفرنسي، إذ قضت محكمة باريس أن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية هي ضرورة وظيفية لقيام المحكم بمهامه التي هي في مكانة أو منزلة المهام التي يقوم بها القاضي، وقضت محكمة باريس في موضع آخر بأن أطراف النزاع قد وافقوا على منح المحكم السلطات الضرورية لحسن سير العدالة والفصل في النزاع المطروح عليه بموافقة أطرافه بموجب اتفاق التحكيم المبرم بينهما، ومن ثم فإنهم يلزموا بالتنفيذ التلقائي لما يصدره المحكم، والذين في حال رفضهم تنفيذ الحكم، يمكن للمحكم فرض الغرامة التهديدية ضدهم.
وبتتبع أحكام القضاء الفرنسي بشأن إقرار سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية لتنفيذ حكم التحكيم، نجد أن أحكام القضاء الفرنسي كانت تشير على استحياء إلى سلطة المحكم في هذا الخصوص، وفي أغلب الأحوال كان إقرارها لسلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية هو إقرار ضمني، ونحيل في بيان ذلك إلى حكم محكمة استئناف رينيه، الصادر في 26 سبتمبر 1984، والذي اعترف بصورة ضمنية بسلطة المحكم في القضاء بالغرامة التهديدية، مشيرة في ذلك بقولها أن” حكم التحكيم الصادر غير مذيل بالصيغة التنفيذية، ومن ثم فهو مجرد من القوة التنفيذية، وأن فرض المحكم للغرامة التهديدية تزيد من فاعلية عملية التحكيم “.
ثم خطت أحكام القضاء الفرنسي خطوة أكثر جرأة في هذا الخصوص، عندما اعترفت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر بتاريخ 8 حزيران 1990 بسلطة اختيار طريقة التعويض الملائمة من بين طريقتي التعويض العيني تحت الغرامة التهديدية والتعويض النقدي، وكانت قضت محكمة استئناف باريس قبل ذلك بتاريخ 26 نيسان 1990 بسلطة المحكم بالإدانة تحت الغرامة التهديدية، وأكدت على موقفها هذا في حكمها الصادر بتاريخ 24 أيار 1991، وأكدت للمرة الأولى على فرض حكمها بالغرامة التهديدية جبراً، ولا يعد ذلك تجاوزاً من جانب المحكم لمهام وظائفه.
وفى حكم لها بتاريخ 4 حزيران 2009،ـ نقضت محكمة النقض الحكم الصادر عن محكمة استئناف باريس، التي رفضت تنفيذ حكم التحكيم تحت الغرامة التهديدية، مقررة أن ذلك يجرد المحكم من فاعليته في الفصل في النزاعات التحكيمية المعروضة عليه، وقبل ذلك قضت محكمة استئناف باريس بأن تخويل المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية باعتبارها سلطة ملازمة أو مصاحبة لوظيفته كقاضي خاص.
قد يمتنع أحد أطراف النزاع، عن تنفيذ الحكم الصادر في النزاع العقدي، ويصر على ذلك، أو حتى ينفذه تنفيذاً ناقصاً أو معيباً، ولا يكون أمام من صدر الحكم لصالحه إلا اللجوء إلى المحكم لفرض الغرامة التهديدية لحمل الطرف الممتنع على تنفيذ الحكم، تلك السلطة التي خولها القانون الفرنسي رقم 539 لسنة 1980 الصادر بتاريخ 10 تموز 1980، الذى يعد تطويراً لقانون 5 تموز 1972، ذلك القانون الذي اعتبره الكثير من الفقه أول قانون يجيز للقاضي الإداري فرض الغرامة التهديدية بنص مادته السادسة، بما خوله المشرع من سلطات يمكن من خلالها إرساء العدالة العقدية، إذ أنه بدون تخويل القاضي تلك السلطات، فإن العدالة تصبح ناقصة، فلا معنى لصدور حكم قضائي يحقق العدالة دون أن ينفذ، أو يكون هناك وسيلة لتنفيذه، ومن ثم تكون طبيعة الغرامة التهديدية دافع للطرف الذي صدر الحكم ضده للإسراع إلى تنفيذه طواعية، حتى لا يقع تحت طائلة دفع غرامة أكبر من قيمة التعويض المقضي به، بما يجعل هذا الطرف يرجح بين تنفيذ الحكم وبين دفع الغرامة التهديدية، والتي يجدها تفوق كثيراً قيمة التعويض، فيضطر معه إلى تنفيذ الحكم، حتى ذكر البعض أن تأثير الغرامة التهديدية هو تأثير سيكولوجي أكثر من كونه تأثيراً قانونياً.
وفي تقديرنا بأن فرض المحكم للغرامة التهديدية على الطرف الممتنع عن تنفيذ حكم التحكيم الصادر ضده يكون قد مارس اختصاصه المنصوص عليه في اللوائح الداخلية لمؤسسات التحكيم المختلفة، إذ تنص المادة 6/2 من لائحة التحكيم في غرفة التجارة الدولية على أن يتخذ المحكم قراره في حدود اختصاصه، كذلك المادة 41 من اللائحة الداخلية للمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.
ويؤازرنا في رأينا هذا أن سلطات المحكمين قد توسعت، ولم تعد قاصرة على مجرد السلطات في عملية التحكيم، بل نجد أن المحكمين في بعض أحكام التحكيم التجاري الدولي قد فرضوا تدابير للمصلحة العامة، فنجد في الحكم الصادر في المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في واشنطن بتاريخ 8 يوليو 2016، وقد اتخذ المحكمون تدابير تفرض على حكومة أورجواي حماية الصحة العامة ضد أضرار التدخين، وتوعية المستهلكين بأخطار التدخين من خلال الإشارة إلى ذلك بعلامات مميزة على علب التبغ.
الخاتمة
تبين لنا أن سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية تمثل إحدى الأدوات المهمة لتعزيز فعالية التحكيم وضمان تنفيذ الأحكام الصادرة عنه، ورغم غياب النصوص الصريحة في التشريعات السورية التي تخول المحكم هذه الصلاحية، فإن الطبيعة التبعية لهذه الأداة وارتباطها الوظيفي بمهمة المحكم تجعلها ضرورة ملحة في تحقيق العدالة وتسوية النزاعات بفعالية، كما خلصت الدراسة إلى مجموعة من النتائج والتوصيات التي يمكننا عرضها على النحو التالي:
أولا: النتائج
- إذا كان قانون التحكيم في مصر أو في الجمهورية العربية السورية لم ينص على سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية فإن فرض الغرامة التهديدية يعد من بين السلطات التي يمارسها المحكم بغرض الوصول إلى هدفه، وهي الفصل في النزاع المطروح عليه بحكم نهائي منهي للخصومة، مثل حمل أحد أطراف النزاع على تقديم مستند بحوزته يفيد المحكم أو هيئة التحكيم بحسب الأحوال في الفصل في موضوع النزاع، وأن تخويل المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية راجع إلى الضرورة الوظيفية التي يقوم بها المحكم، باعتباره قاضى بديل.
- تختلف الغرامة التهديدية عن التعويض وعن العقوبة الخاصة، ومن ثم فإن فرضها مع التعويض لا يعد جمعاً بين تعويضين عن خطأ واحد، وهو أحد سهام النقد التي وجهها جانب من الفقه إلى تخويل المحكم سلطة فرض الغرامة التهديدية.
- نرى أن فرض المحكم للغرامة التهديدية على أطراف خصومة التحكيم أكثر ملائمة مع التعويض العيني، وإن كان هذا لا يمنع توقيعها مع التعويض النقدي.
- يمكن للدائن تصفية الغرامة التهديدية، بشرط أن يكون ذلك قبل صدور حكم تحكيم نهائي في النزاع.
- أهمية التعاون بين التحكيم والقضاء: يستند تطبيق الغرامة التهديدية إلى تعاون المحكم مع القضاء، خصوصا في حالات تصفية الغرامة.
ثانياً: التوصيات
تقدم الدراسة جملة من التوصيات التي يمكننا بيانها على نحو ما يلي:
- ضرورة التدخل التشريعي وتعديل قانون التحكيم في الجمهورية العربية السورية لينص على سلطة المحكم في فرض الغرامة التهديدية لحمل المدين الذي صدر ضده الحكم على تنفيذه، كما ذهبت إلى ذلك صراحة المادة 1468 من قانون التحكيم الفرنسي بعد تعديله عام 2011.
- تنظيم إجراءات تصفية الغرامة التهديدية: عبر وضع آليات واضحة لتصفية الغرامة التهديدية، سواء من اختصاص المحكم أو القضاء الوطني.
- الاستفادة من التجربة الفرنسية الناجحة، وإجراء دراسات ودورات ومحاضرات تهدف إلى توعية الدائن بحقه في طلب فرض الغرامة التهديدية كي يتسنى له تنفيذ الحكم التحكيمي الصادر لمصلحته، حيث أن ندرة الاجتهادات القضائية هي دليل على عدم معرفة هذا المصطلح وندرة تطبيقه.
قائمة المراجع
المراجع العربية:
- إبراهيم الوقدان، الغرامة التهديدية كوسيلة تنفيذ إداري في ضوء نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم في المملكة العربية السعودية، المجلة الأكاديمية للبحث والنشر والعلمي، العدد 6(62)، 2024، ص16- ص71.
أنور سلطان، أحكام الالتزام، دار النهضة، مصر، 1993.
- حازم الجزار، أصول التنفيذ في قانون أصول المحاكمات المدنية، دمشق، بدون دار أو سنة نشر.
- راند مصطفى حسن سليمان، النظام القانوني للغرامة التهديدية في الدعوى المدنية وفقاً للنظام السعودي، مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية والقانونية، مجلد 7، إصدار 7، 2023، ص65- ص75.
- عزمي عبد الفتاح – د. عبد الستار الملا: قواعد التنفيذ الجبري في قانون المرافعات الكويتي، الكتاب الأول، ط1، 2008.
- فواز الصالح، القانون المدني 1، الجامعة الافتراضية السورية، 2018.
- فواز الصالح، النظام القانوني للغرامة التهديدية، دراسة مقارنة، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 28(2)، 2012، ص9- ص38.
محمد نور شحاته: النشأة الاتفاقية للسلطات القضائية للمحكم، دار النهضة المصرية، القاهرة، 1993.
محمود دياب الشاعر، أثر التغير في قيمة النقود على الالتزامات في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة، دار الفكر الجامعي، القاهرة، ط1، 2004.
المراجع الأجنبية
مراجع باللغة الفرنسية
Ali Alenezi. L’efficacité des mesures provisoires et conservatoires dans l’arbitrage interne: étude du droit français et du droit koweïtien. Ph D Thèse. Université de Lyon, 2022.
- Alexandre Labbay, L’astreinte, un nouveau mode de financement au service de l’environnement? (CE, Ass., 10 juillet 2020, Association Les amis de la Terre France, nº 428409), CRDF, nº 19, 2021, p. 137.
- Clay, Th., Les mesures provisoires demandées à l’arbitres, in Les mesures provisoires dans l’arbitrage commercial international, Litec, 2007, p. 9, spéc. p. 18
- David Chekroun, L’imperium de l’arbitre, Arch. phil. droit 52, 2009, pp.135-180.
- de Boisséson, M., Le Droit français de l’arbitrage interne et international, GLN Joly 1990.
- Hossam M. Gamaleldin, Étude des règles d’indemnisation du préjudice dans l’arbitrage international: vers une indemnisation adéquate du prejudice, Ph D Thèse, Université Panthéon-Sorbonne, Paris I, 2014.
- Kaplan, Ch., L’astreinte: un remède au défaut de pouvoir coercitif de l’arbitre? », Le Juriste, juin/juill. 2001, p. 43
- Loïs Dossios et Jean-Baptiste, L’Arbitre, juge des parties et/ou régulateur? Revue Internationale de Droit Économique, 2019, pp. 105-122.
- Lucie Mayer, La réforme du droit de l’arbitrage en France, RARB Vol. 49, 2016, p.7.
- Perrot, R., et Théry, Ph., Procédures civiles d’exécution, Dalloz, 2013.
- Servais, N., Colloque dix ans d’application de I ‘astreinte, Brusselle, 1992.
- Tarek Haji Kasem, Les pouvoirs de l’arbitre en droit Français et en droits Syrien et Egyptien, Ph D Thèse, Université de Paris I, 2018.
- Vincent Jean, Voix d’exécution et procédure de distribution, 19eme édition, Dalloz, 1999.
- Yves Gaudemet, Réflexions sur l’injonction dans le contentieux administratif, in Le pouvoir. Mélanges offerts à Georges Burdeau, L.G.D.J., 1977.
مراجع باللغة الإنجليزية
Paulsson, M., The 1958 New York Convention in Action, Kluwer Law International, 2016, p. 119



